أيها المؤمنون :
إن أحق من يُستحى منه الله تعالى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :((فالله أحق أن يُستحيا منه )) ((الترمذي)) . وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الحياء من الله ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((استحيوا من الله حق الحياء)). قلنا : يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله . قال :((ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)). ((الترمذي))
وهذا الحديث دليل على ما سبق ذكره ؛ من أن الحياء يصد عن قبيح الفعال وذميم الصفات .
اعلموا -عبادَ الله- أنه ليس من الحياء أن يسكت الإنسان على الباطل ، ليس منه أن تُعَطل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهذا جبن وخور وضعف ، وليس من الحياء في شيء ، قال النووي رحمه الله :" وأما كون الحياء خيراً كله ولا يأتي إلا بخير فقد يُشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يجلُّه ، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق ، وغير ذلك مما هو معروف في العادة . وجواب هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة ؛ منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله : أن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة ، بل هو عجز وخور ومهانة ، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف ، أطلقوه مجازاً لمشابهته الحياء ". ((شرح النووي على صحيح مسلم : 2/5))
ولذا مما تنزه الله عنه الاستحياء من الحق مع أنه موصوف بالحياء كما سيأتي ، قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَ } ((سورة البقرة ، الآية :26)) ، وسببها أن المنافقين لما ضرب الله مثلهم {كمثل الذي استوقد نار } ، وقوله :{أو كصيب من السماء } قالوا : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ! فأنزل الله الآية . ((تفسير الطبري : 1/177))
وقال سبحانه :{ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } ((سورة الأحزاب : 53))
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :(( إن الله لا يستحيي من الحق)) ((سنن الترمذي))
وليس من الحياء أن يمتنع الإنسان من السؤال عن أمور دينه ، فالحياء يبعث على الخير ولا يصد عنه .
ولذا مدحت عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار بقولها :" رحم الله نساء الأنصار ، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين ". ((صحيح مسلم)) وجاء إليها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال : يَا أُمَّاهْ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ ؟ فَقَالَتْ : لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ . قُلْتُ : فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ ؟ قَالَتْ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :(( إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ)) ((صحيح مسلم)). وجاءت أم سُليم رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلةً : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :((إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ)) ((أخرجه الشيخان))
فإذا لم يقدر الإنسان على السؤال لعذر يقتضي الحياء فعليه أن يُرسل من يسأل له ، أو يهاتف الشيخ، أو يراسله ، فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :" كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ؛ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ :((يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ)) ((أخرجه الشيخان))
فاحذر – رعاك الله – من أن يصدك الشيطان عن سبيل العلم وسؤال أهله بإيهامك أن هذا من الحياء، واجعل قول إمامنا مجاهد رحمه الله منك على بال " اثنان لا يتعلمان : حيي ومستكبر ".
إذا قلَّ ماءُ الوجْهِ قلَّ حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قلَّ ماؤه
حياءَك فاحفظه عليـك فإنما *** يدل على وجه الكريم حياؤه
اللهم حبب إلينا هذا الخلق وزينه في نفوسنا ، اللهم آت نفوسنا تقواها ...