الاغنية هي للدفاع عن الوجود
الاغنية في هذا العصر سلاح خطير جدا" ذو حدين لأنها تعيش مرحلة ازدهار في الكم , ولأنها صارت تقريبا" الخبز اليومي لأنساننا المعاصر .
منذ الصباح وحتى نسلم أعيننا الى النوم ووسائل الاعلام من راديو وتلفزيون تصدح بالأغاني .
والأعلانات تتكرر يوميا" مئات المرات عن حفلات غنائية تقام في مرابع الليل التي تفوق عددها بأضعاف على المدارس ودور النشر والمكتبات , والجدران في معظم المناطق صارت لوحات اعلانية لصور فنانين وفنانات بكافة الاحجام , والقياسات والمجلات الفنية التي ترصد بألاف الصفحات الملونة حياة المغنين والغنيات وما يلبسن ويشتهين من مأكل ومشارب تقتحم الساحة . مقابل تراجع واضح للمجلات الادبية والثقافية .
حتى الاعلان عن المنتجات الصناعية والغذائية صار غناء ورقصا" , كأننا نعيش بالفعل عصر الاغنية , ولو درسنا بعمق ما تعنيه الاغنية وما يمكن ان تفعله في المجتمع على مختلف اجياله لوجدنا انها وسيلة للتأثير المباشر إيجابا" وسلبا" .
وواقعها الذي ألت اليه اليوم يجعلها في موقع السلب , هناك ازدياد مفرط في عدد المغنين والمغنيات , أشبه بتفريخ شبه يومي , كأن الغناء صار " شغلة " من ليس له شغل ربما لأن الظروف المالية جعلت منه مصلحة تقود الى الشهرة والنجومية والكسب السريع , وضاع في هذه الفوضى الصالح مع الطالح .
نحن مع الاغنية حين تكون أغنية معلمة تعلم الحب , وتعلم الوطنية , وتنقي الروح من التعب اليومي , مع الاغنية حين تكون أداة بناء , وضدها بألمطلق حين تكون أداة عدم وتمييع وتسطيح لقيم ومبادىء المجتمع .
ولو أننا رصدنا الموضوعات التي تحملها معظم أغنيات اليوم لوجدناها لا تخرج عن موضوعين أثنين ؟ هيمان العاشق بألمعشوق , والبكاء على فقده وقليلة جدا" الاغنيات التي تغرد خارج هذا السراب الهائل من العواطف المشحونة بالتكرار , وإن حمل احد الفنانين رؤيا وطنية او اجتماعية ما في نتاجه الفني فإنه في عرف الفني يشكل ظاهرة وتفردا" ولا يصلح سوى للمناسبات الوطنية ,
كل صبية انشدت أمام ذويها أغنية وقالوا لها مجاملين صوتك حلو , تنطلق في اليوم الثاني الى الاحتراف .
وكل شاب وجد صوته رخيما" في (حمام) البيت يشارك في اليوم الثاني بأحد برامج تصنيع المواهب وبقليل من الدعم المادي في أعلب الاحيان يتصدر بعد أشهر محطات التلفزة . وفي الحالتين نحن ندفع الثمن لأننا مجبرون على السمع شئنا أم أبينا .
المطرب صوت جميل وموهبة في البداية , والصوت والموهبة لا يصنعان وحدهنا مطربا" قادرا" على الوصول .
الفنان الحقيقي في مجتمع حقيقي وواع لا يحتاج لمن يطلقه , لأنه في النهاية لا بد وأن يصل بموهبته ومقدرته الى النجاح , لكن الذي يحدث أن وسائل الاطلاق الأغنية في غالبيتها من إذاعات ومحطات تلفزيونية باتت شبه متعهدة للنجوم . فلكل مخرج منوعات فيها مريدوه وأتباعه , فإن رضي عن فلان صدره وان غضب من أخر حرمه متعة الضوء والشهرة , وهذا ما يجعل كثيرا" من الطحلب ينمو على حساب الشجر الحقيقي . ويحفر الفنان المستحق لدوره بيديه وأظافره طريقا" محفوفة بألأشواك , والعثرات والمحاربين . وقد يصل , وقد لا يصل على الاطلاق , ولعل هذا المرض المستشري , مرض احتكار النجومية وتصنيعها تقع على الدولة مسؤولية علاجه . عن طريق تأليف لجان مختصة من ملحنين وشعراء يحق لها وحدها أن تجيز إذاعة الأغنية بعد ان تمتحن ويحق لها ان تلامس شفاف الناس بعد ان تكون قد حققت فعلا" شروط الأغنية الكاملة من كلام وصوت ولحن .
وفي النتيجة يبقى الزمن وحده الكفيل بالرقابة الحقيقية والفاعلة على كل شسىء . بعد سنوات لن يتبقى من كل هذا الكم الفاجع من أغنيات سوى أكملها , وسيبقى القليل القليل , وكي لا يهمش الفنان الذي يجد في اعماقه جذوة الفن المشتعلة عليه ان يشتغل على نفسه , على ثقافته الفنية , على صوته وتدريسه الأنغام , وتشريبه بالمقامات والتدريب المستمر .
الأغنية قنبلة موقوته قد تطيح بأجيال كاملة لو أسيىء استخدامها , صمام أمانها الأوحد ان تكتمل مقوماتها . حينها فقط تسمو بالمستمع , ويسمو بها وتحقق معادلة الجمال . الجمال الذي يستند الى الحق والخير والنهوض المستمر الى حياة مشرقة .